الذكرى الثانية لرحيل “أبو ليندا” المؤسس الفخري لـ “وصول”

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

محمد حسن – باريس

كان يخيل لي دائمًا في طفولتي أن العاملين في مجالات حقوق الإنسان يستطيعون تحصيل الحقوق لجميع البشر، لكن الأمر مختلف عندما امتهنت العمل الصحفي في عام 2015، وتخصصت حينها في متابعة قضايا حقوق الإنسان. أستطيع القول الآن إن الأمر مُرهق للغاية، ويجب على المدافعين وضع خطّة للتفريغ النفسي لتفريغ الصدمات التي تواجههم أثناء العمل مع الضحايا كـ أولوية في قائمة خططهم لتجنّب احتمالات الضرر النفسي على المدى البعيد.

اليوم، يكّمل الزميل المدافع عن حقوق الإنسان محمد نادر حسّو الملقّب بـ “أبو ليندا” 66 عامًا على تاريخ ميلاده، وسنتين ويوم على رحيله، ففي 14 شباط 2019 توفّي “أبو ليندا” فجأة بسبب تراجع حالته الصحّية، كان بحاجة إلى زيارة العديد من الأطباء، لكن لم يكن يملك ثمن كشفية الطبيب المختصّ، وإن كان هناك أطباء في مستوصفات يقدمون خدمات مجّانية، لم يكن يملك ثمن الدواء لشراءه.

لم أرى مدافعًا ببساطته، ولا بقوّة عزيمته، ولا بصلابة أفكاره وقيمه ومبادئه، ولا بتواضعه، كان يقيم بأحد أحياء مدينة بيروت لسنوات عدّة مع صديق له في غرفة لا تزيد مساحتها عن 12 مترًا مربعًا، ولم يكن بجانبه أيّ من أقاربه. كان ينقص “أبو ليندا” الكثير من الأمان، والمأوى اللائق، والرعاية الصحّية، والإقامة القانونية، حاله كـ حال معظم اللاجئين في لبنان. كان زميلًا في النشاط السلمي في بيروت عندما كنّا ننظم وقفات احتجاجية في وسط بيروت اعتراضًا على ما يتعرّضون له السوريون في سوريا، وما يواجهه اللاجئون في لبنان. لم يتغيّب عن حضور أي مناسبة متعلّقة بحقوق الإنسان، وكان يتحدّث للوسائل الإعلامية وكأن من يقف لأجلهم هم أبناء جلده، يعرفه الأصدقاء المشتركين أنّه شديد الغيرة على أوضاع المستضعفين، حدّ الطباع في حديثه مع المسؤولين الحكوميين، ومع أي شخص ذو سلطة، معتبرًا أن أي شخص لديه نفوذ، أي لديه القدرة على الدفاع عن المستضعفين لو بالموقف.

أجريت معه حوارًا يطول الساعتين تقريبًا في شارع الحمرا ببيروت، حدّثني آنذاك عن الوقفة الاحتجاجية الأولى التي شارك بها مع أصدقائه اللبنانيين أمام السفارة السورية بسبب ما يتعرّض له السوريون في سوريا عندء بدء الحراك السلمي في سوريا عام 2011، وحدّثني تفصيلًا عن حياته الشخصية والمهنية، والنشاط الحقوقي الذي بدأه منذ التسعينيات، قبل ولادتي، وملاحقة أجهزة المخابرات له، وطريقة هروبه بطريقة غير شرعية إلى لبنان في عام 2009. كان الحديث مشوقًا لا أملّ من سماع التسجيلات الصوتية بيننا، كنت مذهولًا من عظمة نشاطه المخفي في ذاك الحوار، النشاط الذي لم يُظهره يومًا بهدف التفاخر أمام الآخرين، كنت مرتبكًا من نسيان التفاصيل المهمّة لذكرها في المادة الصحفية، كما الارتباك الذي ينتابني الآن وأنا أكتب هذه المادّة، فعلًا إنّي أخشى من عدم قدرتي على وصفه بشكل دقيق..

نشرت المقال بعنوان “أبو ليندا – صورة للحراك الكُردي ضمن الثورة السورية” على موقع تلفزيون سوريا قبل شهرين من مغادرتي لبنان، لم يتضمن 10 في المائة مما حدّثني إياه، كنت ملتزمًا بطول المادّة الصحفية، وكان شرفًا عظيمًا أن أكتب عن شخص مثل “أبو ليندا” وعن عمله الدؤوب، عجزت عن وصف الحوار الكامل بما يقارب 1000 كلمة، عندما نُشرت المادّة آنذاك، انتابني شعور بالفخر أنني أول من كتب عنه مقالًا خاصًّا يلخّص نضاله ومسيرة حياته، كانت ولا زالت من أكثر المواد الصحفية التي أفخر بإنجازها. إن تلخيص حياة شخص عظيم كـ “أبو ليندا” بمقال واحد، هو ظُلم بحقّه..

بكل مصداقية، لم يكن “أبو ليندا” أحد المؤسسين الرسميين لـ مركز وصول لحقوق الإنسان، لكننا منحناه بمنحه صفة المؤسس كـ صفة فخرية تخليدًا لذكراه. كان أحد الداعمين الأساسيين عندما كانت “وصول” فكرة، كان له دورًا كبيرًا في تشجيع خطوة تأسيس أول مركز حقوقي معني بشكل مباشر بمتابعة قضايا انتهاكات حقوق الإنسان ضد اللاجئين السوريين في لبنان. تناقشنا مطولًا حول حلم “وصول”، وتصوّره لدور المركز في تسليط الضوء على قضايا اللاجئين كما هو عليه الآن، وكان ينتظر بشغف انطلاقة عملنا. أتذكر عندما بدأنا بتأسيس “وصول”، كان يتصل بي دائمًا ليخبرني عن حالات للاجئين تعرّضت للانتهاكات، وكان العين الخفية في منطقة برج حمود، إذ كان له دورًا مهمًا في حث بلدية برج حمود على إيقاف عملية اغلاق المحال التجارية للسوريين الذين يعملون من دون رخص، كان حريصًا على أعمال السوريين في المنطقة في وقت لم يكن لديه القدرة على تأمين قوت يومه.

ومنذ بدء رحلة لجوئه إلى لبنان عام 2009 لم يقبل المساعدة من أحد، ولم يطلبها يومًا إلّا من أجل آخرين لا من أجله، علمًا أنه كانت تربطه علاقات صداقة قويّة مع بعض المسؤولين في الحكومة اللبنانية، وكان يحرص بعدم إظهار حاجته للمساعدة، حين عاتبته بأن يجب طلب المساعدة من “أصدقائه”، قال لي: “أنا لا أطلب المساعدة من أحد، جميعهم يعلمون بأحوالي”.

لم يترك “أبو ليندا” أي قضية إلّا وكتب ودافع عنها، ولم يمرّ خبرًا إلّا وتابعه، ولم يترك أخبار اللاجئين في الشتاء تمرّ على أذنيه مرور الكرام، إلّا ونادى وطلب وحثّ من حوله لمساعدة اللاجئين في المخيمات، وكان عاجزًا عن تقديم أي نوع من أنواع المساعدات، لكنّه لم يعجز عن التعبير عن تضامنه وهو في غرفته الصغيرة، ولم يبخل عن توجيه الناشطين وحثّهم لمساعدة اللاجئين في المخيمات.. كان مثالًا للناشط الشغوف لفعل الخير، والدفاع عن حقوق المستضعفين في لبنان.

لا يزال قبره في منطقة البقاع وحيدًا لا يزوره أحد. عندما دُفن “أبو ليندا”، كانت جنازته خجولة، كـ جنازة جميع السوريين الذين قضوا خلال السنوات العشر الماضية في سوريا ودول اللجوء، من دون أحبائهم وأصدقائهم، تمنيت في ذاك الوقت، أن تقلّني طائرة إلى قبره لوداعه قبل دفنه، كما جميع الأصدقاء الذين غادرونا من دون أن يكون لنا الفرصة في رؤياهم.

لا زلت أقول: “هذا الإنسان ساهم بتربيتي”. قلتها له ذات مرّة وقال بصوت خجول وناعم (يا حبيب عمّو). لقد منحني الكثير من الشغف في الدفاع عن حقوق الإنسان، وقد ترك خلفه أثرًا لن ننساه ما حيينا، كنّا نتمنى أن يكون “أبو ليندا” بيننا شخصيًا، لنمنحه تكريمًا يليق بنضاله العظيم، لكن الموت خطف الأمنية عنوة، وقد منحه مؤسسو “وصول” منصبًا فخريًا كـ أحد مؤسسي هذا العمل الذي نفتخر به، وسيبقى له حيز الذكرى بفريق عمل “وصول”، لقد ترك بصمة لن تُنسى.

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد